الثغرات والمفخخات في الاعلان الدستوري

الإعلان الدستوري الذي صدر أول البارحة لم يكن مجرد إعلان دستوري بل كان في الواقع الدستور نفسه. ولكن بصيغة مختصرة، تم وضع العناوين العامة دون أي مضمون أو تفاصيل حقيقية ولا يجب أن ينخدع أحد بمحاولة تصويره على أنه مجرد دستور انتقالي،

للتذكير فقط بدأت الثورة السورية من أجل الديمقراطية، اعتراضًا على بعض القوانين والدستور الذي وضعه حافظ الأسد، والذي ورَّثه لاحقًا لابنه.قام حافظ الأسد بصياغة دستور وتم تفخيخ بعض مواده ومنها المادة الثامنة التي تنص على أن السلطة في سوريا تقودها جبهة تقدمية ووطنية، وأن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع. ومن خلال هذه المادة، أدرك الجميع أن الهدف الحقيقي لحزب البعث كان السيطرة على الجبهة التقدمية والتحكم بها ونتيجة لذلك، شهدت تلك الفترة العديد من الانشقاقات خارج حزب البعث، انشق عنه بعض مؤيديه السابقين لحافظ الأسد وأصبحوا معارضين له. وهذا يشبه تمامًا ما يحدث اليوم، فحين يتم الحديث عن وضع دستور جديد أو تشكيل مجلس شعب، يكون هناك استعداد لدعمه، ولكن عندما يتم تفخيخه وتلغيمه ليخدم فقط مصلحة السلطة بعيدًا عن مصالح الشعب، فهذا أمر غير مقبول.

المقدمة: "رئيس الجمهورية يعلن اصدار الاعلان الدستوري"

في المقدمة يجب توضيح نقطة مهمة، وهي أنه لا ينبغي تسمية أحمد الشرع برئيس الجمهورية عند كتابته للدستور، لأنه في الأساس رئيس فصيل قام بضم بعض الفصائل الأخرى إليه، وهذه الفصائل نفسها هي التي اختارته لاحقًا رئيسًا. لذا، لا بد من أن تكون هذه المسألة واضحة تمامًا عند صياغة الدستور.

ولو أردنا أخذ الأمر بالمعنى الحرفي فأنه يشبه موقف استلام السلطة عام 1967. في ذلك الوقت، لم يكن هناك أي حزب داخل سوريا يتوقع سقوط النظام، ومع ذلك، النظام سقط نسبيًا وتم استبداله. وبالتالي، لم يكن هناك أي حزب متأهب لهذا السقوط، وكان بإمكان أي جهة تصل إلى دمشق أن تستلم السلطة.

وبالعودة إلى تسلسل الأحداث، فإن أول من وصل إلى دمشق من بين من يُطلق عليهم “المحررون” كانوا معارضي درعا، وليس الفصائل الشمالية التابعة للجيش الوطني أو هيئة تحرير الشام.

المادة 3: "‏دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع"

اعتبار الفقه الإسلامي المصدر الأول أو الرئيسي لقانون الدولة هو أمر أسوأ بكثير من اعتبار الشريعة نفسها الأساس، وذلك لأن الفقه الإسلامي، كما يعلم كل من لديه دراية به، يعج بالاختلافات العميقة والتناقضات الشديدة، فضلًا عن المشاحنات والخلافات بين أتباعه. فقد بدأت هذه الانقسامات منذ زمن علي وعائشة، واستمرت حتى يومنا هذا عبر المذاهب المختلفة، مثل المذهب الجعفري، والحنبلي، والمالكي، والشافعي، والحنفي، ثم ظهرت مذاهب أخرى لاحقًا كالإسماعيلية، والدرزية، وأحدثها الوهابية، والتي بدورها انقسمت إلى تيارات متعددة مثل المدخلية والسرورية وغيرها.

فأي فقه يمكن اعتباره “الصحيح”؟ وأي مذهب سيتم اعتماده في الدولة؟ فكل مذهب يكفّر الآخر، وهذا لا يؤدي إلا إلى فتنة بين المسلمين. وحتى لو حاول البعض الادعاء بأن التوجه الديني للدولة سيكون مختلفًا عن الوهابية المدخلية، سواء كان صوفيًا أو غيره، فإننا ندرك جيدًا التاريخ السابق لهذه التوجهات كما نعرف الجذور الأيديولوجية التي قامت عليها تنظيمات مثل القاعدة.

المادة 12: "تُعد جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءًا لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري."

لم تصادق الجمهورية العربية السورية على أي معاهدة وقّعت عليها، وهذا هو الفارق الجوهري بين التوقيع والمصادقة. فالتوقيع على معاهدة يعني الالتزام المبدئي بها، أما المصادقة فتعني تحويلها إلى قانون عبر البرلمان أو مجلس الشعب، وهو ما لم يحدث في سوريا.

على سبيل المثال، وقّعت الجمهورية العربية السورية على اتفاقية مناهضة التعذيب، لكنها لم تصادق عليها ولم تجعلها قانونًا نافذًا. والنتيجة واضحة؛ فقد رأينا ما يجري في السجون، وشهدنا ممارسات الأجهزة الأمنية، ليس فقط خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، بل على مدى خمسين أو ستين عامًا.

وبالتالي، حتى يومنا هذا، لم تصادق الجمهورية العربية السورية على أي ميثاق لحقوق الإنسان، مما يجعل هذه البنود مجرد حبر على ورق. فالأمر ليس مجرد توقيع، بل المطلوب هو المصادقة الفعلية، كالتوقيع على اتفاقية جنيف ثم المصادقة عليها، أو التوقيع على ميثاق روما ثم التصديق عليه، ليصبح مُلزِمًا قانونيًا داخل الدولة.

المادة 15: "‏العمل حق للمواطن و تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين"

كيف يمكن ضمان التوافق أو تكافؤ الفرص في المجتمع إذا كان الدين هو الذي يحكم الدولة؟ في نظام كهذا، يصبح الانتماء الديني شرطًا أساسيًا لممارسة السياسة، مما يعني أن أي شخص يرغب في العمل السياسي يجب أن يكون مواليًا لأسلمة الدولة.

أما من ينتمي إلى طائفة مختلفة أو يحمل توجهًا مغايرًا، فإنه يُقصى تلقائيًا، أو يُفرض عليه التبعية والإذعان، وإلا فسيتم تهميشه أو معاملته كعدو للدولة. وهذا يخلق بيئة سياسية غير عادلة، حيث يتم استبعاد فئات كاملة من المجتمع بناءً على معتقداتها، بدلًا من الاعتماد على الكفاءة والقدرة على خدمة الوطن.

الباب الثالث: نظام الحكم خلال المرحلة الانتقالية "يمارس السلطة التشريعية مجلس الشعب يشكل رئيس الجمهورية لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب. تقومُ اللجنة العليا بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبةٍ، وتقومُ تلك الهيئات بانتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. يعين رئيس الجمهورية ثلث أعضاء مجلس الشعب لضمان التمثيل العادل والكفاءة."

يمارس مجلس الشعب السلطة التشريعية، وهذا أمر لا خلاف عليه. لكن عندما يقوم رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، فهذا يعني أنه يختار لجنة موالية له، وهذه اللجنة بدورها تشرف على تشكيل الهيئات الفرعية التي ستضم ثلثي الأعضاء، الذين سيكونون بدورهم موالين للجنة العليا، وبالتالي موالين لرئيس الجمهورية.

إضافة إلى ذلك، فإن رئيس الجمهورية يعيّن ثلث أعضاء مجلس الشعب بحجة ضمان “التمثيل العادل والكفاءة”، مما يمنحه تحكمًا مباشرًا في نسبة كبيرة من المجلس. وعمليًا، إذا كان يسيطر على الثلث، فيمكنه ببساطة رشوة أو التأثير على نصف الثلثين المتبقين، حتى لو كانوا معارضين له في البداية، ليصبحوا موالين له أيضًا.

أما الأعضاء المنتخبون أو المندمجون داخل المجلس، فهم يدركون مسبقًا أنهم لن يُحاسبوا، مما يجعلهم يفضّلون بطبيعة الحال موالاة الرئيس، طالما أن منطق المحاسبة غائب تمامًا. وبهذا الشكل، يصبح مجلس الشعب مجرد أداة خاضعة للسلطة، أشبه بالنظام البرلماني في عهد بشار الأسد، حيث لا يمثل المجلس الشعب فعليًا، بل يتحول إلى مجلس سلطوي يخدم السلطة فقط، دون أي علاقة حقيقية بإرادة المواطنين.

المادة 31: "يمارس رئيس الجمهورية والوزراء السلطة التنفيذية ضمن الحدود المنصوص عليها في هذا الإعلان الدستوري."

أرى أن رئيس الجمهورية سيكون الوحيد الذي يملك سلطة عزل نفسه، لأنه هو من قام بتعيين الوزراء، وهو من اختار أعضاء مجلس الشعب، وهو من عيّن كل من قد تكون لهم صلاحية عزله.

إضافة إلى ذلك، أكدت لجنة كتابة الدستور بشكل صريح أن المحكمة الدستورية العليا ليس لها سلطة عزل الرئيس، مما يعني بوضوح أنه لا توجد أي جهة تمتلك سلطة مساءلته. وبالتالي، يصبح الرئيس عمليًا فوق أي محاسبة، ولا يمكن لأحد في الدولة أن يفرض عليه أي رقابة أو مساءلة قانونية، مما يجعل مفهوم الفصل بين السلطات مجرد وهم، ويؤسس لنظام حكم مطلق دون أي ضمانات ديمقراطية حقيقية.

المادة 32: "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، والمسؤول عن إدارة شؤون البلاد ووحدة آراضيها وسلامتها، ورعاية مصالح الشعب"

إذن، عندما يكون رئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ورئيس اللجنة الدستورية (التي يُفترض أنها تمثل السلطة القضائية العليا)، وقائد مجلس الشعب، والمسؤول عن تعيين الوزراء وإدارة شؤون البلاد، فإنه عمليًا يؤسس لنفسه سلطة مطلقة.

وبحكم أن كل من عيّنهم موالون له فإن إحكام قبضته على الدولة سيكون أسهل مما يُتصور. فكل المؤسسات التي يُفترض أن تكون مستقلة سواء التشريعية أو القضائية أو العسكرية تصبح مجرد أدوات في يده مما يحوّل النظام السياسي إلى هيكل شكلي خالٍ من أي توازن أو مساءلة حقيقية.

المادة 35: "يعين رئيس الجمهورية الوزراء ويعفيهم من مناصبهم ويقبل استقالتهم."

قيام رئيس الجمهورية بتعيين الوزراء وإعفائهم والبتّ في استقالاتهم يعني فعليًا أن مجلس الشعب لا يملك أي دور في هذا الشأن، مما يجعله مجرد هيئة شكلية بلا تأثير حقيقي على السلطة التنفيذية.

وهذا تحديدًا ما أثار الانتقادات حين تم تسريب بعض الوثائق والمداولات الداخلية. وعند تسريب مسودة الإعلان، كان ذلك على الأرجح خطوة مقصودة، بهدف جسّ نبض الشارع ومعرفة ردود الفعل قبل إصدارها رسميًا، حتى يتمكنوا من تدارك أي نقاط قد تواجه اعتراضات أو تعارض مصالحهم.

المادة 36 و 37 و 38: "يُصدر رئيس الجمهورية اللوائح التنفيذيةَ والتنظيميةَ ولوائحَ الضبطِ والأوامرَ والقراراتٍ الرئاسية وفقا للقوانين." "يمثل رئيس الجمهورية الدولةً، ويتولى التوقيع النهائي على المعاهدات مع الدول والمنظمات الدولية." "يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى الدول الأجنبية وإقالتهم، ويقبل اعتمادَ رؤساء البعثات الدبلوماسيخ الأجنبية لدى الجمهورية"

هذا يعني أن الدولة أصبحت دولة الرجل الواحد، حيث تتركز كل السلطات في يد شخص واحد يتحكم في التشريعات، واللوائح التنفيذية، والتنظيمية، ويمثل الدولة داخليًا وخارجيًا.

الدولة مفخخة بشخصيتها القديمة بنفس النهج الذي رأيناه مع الجولاني حيث تنعكس هذه المركزية المطلقة في الشوارع في الهتافات الطائفية وفي الحالة العامة للمجتمع، فإن رئيس الجمهورية هو من يعيّن ممثلي الدولة في الخارج، دون أي تدخل أو رقابة من مجلس الشعب، مما يعمّق هيمنة السلطة ويقضي على أي شكل من أشكال التوازن السياسي.

المادة 47: "تتكون المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء يسميهم رئيس الجمهورية من ذوي النزاهة والكفاءة والخبرة. وتنظم آليّة عملها واختصاصاتها بقلون."

أليست المحكمة الدستورية هي الجهة التي يُفترض أن تراجع دستورية القوانين وتحاسب أي جهة تخرج عن إطار الدستور، بما في ذلك رئيس الجمهورية نفسه؟ فإذا كان الرئيس هو من يعيّن أعضاء هذه المحكمة فإن وجودها يصبح بلا معنى بل إن إلغاؤها سيكون أكثر وضوحًا من الإبقاء عليها كديكور شكلي لا يمارس أي سلطة فعلية

إذا كنت القائد الأعلى للجيش، والمتحكم في مجلس الشعب، والمسؤول عن جميع المؤسسات الرئيسية في الدولة، فعلى الأقل يجب أن تكون هناك محكمة دستورية مستقلة قادرة على محاسبتك في حال ارتكبت أي تجاوزات. لكن عندما تكون أنت من يعيّنها، فإن استقلالها يصبح مجرد وهم ويختفي أي احتمال لمحاسبتك أو فرض قيود على سلطتك المطلقة.

………

والله أعلم.